فصل: مطلب في التقاطع وعدم الالتفات إلى الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولفظ ما يدل على أنهم يشكرون شكرا لا يذكر لقلته {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم وبثكم {فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 79 يوم القيامة للحساب والجزاء {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ} لا لغيره {اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} في الزيادة والنقص، والظلمة والضياء، والحر والقر، ونعمة الاستراحة في الأول وطلب العمل في الثاني {أَ فَلا تَعْقِلُونَ} 80 صنائع اللّه ومنافعه التي أسداها إليكم فتستدلوا بها على عظمته، وتشكروه حق شكره، وتؤمنوا باللّه ورسوله {بَلْ قالُوا} وهذا انتقال ثمن، أي قال هؤلاء الكفرة مع توالي نعمنا عليهم {مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ} 81 وهو أي قول الأقدمين {قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 82 بعد ذلك، استفهام إنكار وتعجب معرضين عن التفكر والتدبر جانحين عن الاتعاظ والاعتبار قائلين كيف يكون هذا؟ وإنما {لَقَدْ وُعِدْنا} بالحياة بعد الموت {نَحْنُ} من قبلك يا محمد {وَآباؤُنا} من قبل وعدوا من قبل أمثالك {هذا} الوعد نفسه {مِنْ قَبْلُ} أن توعدنا أنت، وإذ لم نقف له على حقيقة فنقول لك {إِنْ هذا} الوعد ما هو بالوعد الحق وما هو {إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 83 وخرافاتهم الواهية لا غير، ومن هنا يقال في ضرب المثل حديث خرافة.
ونظير هذه الآية الآية 67 من سورة النمل.
وخرافة هذا قيل إنه استهوته الجن سنين فلما تركته صار يحدث قومه بما رأى من عجائبهم بما لا تصدقه عقولهم، ولهذا صاروا كلما سمعوا شيئا لا يعقلونه يقولون حديث خرافة.
هذا وبالنظر لظاهر الآية قد يفهم أنه جاء لآبائهم رسل وردوا عليهم بما ردوا به على محمد مع أنه لم يأتهم رسول ما بعد إسماعيل الذي لم يره آباؤهم، وإنما قالوا ما قالوا بالنسبة لما سمعوه من أخبار الأمم الماضية المكررة سيرهم لديهم، لأن شأنهم في الأخذ والرّد شأنهم.
قال تعالى: {قُلْ} يا سيد الرسل على طريق الاستفهام لقومك {لِمَنِ الأرض وَمَنْ فِيها} من الخلائق والنبات والمعادن والمياه {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 84 وتدعون العلم؟ فإنهم لا شك {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ} لهم بعد إقرارهم هذا {أَ فَلا تَذَكَّرُونَ} 85 أنكم من جملة من عليها، وإنكم مملوكون للّه، وأنه قادر على إبادتها كما خلقها، فتعلمون أنه قادر على إعادتكم بعد موتكم فتتعظون وتؤمنون.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 86 فإنهم مضطرون وملجئون بأن {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} مربوبة ومملوكة {قُلْ} لهم بعد اعترافهم {أَفَلا تَتَّقُونَ} 87 خالقها أن يسلط عليكم من فيها من الملائكة وما فيها من الصواعق والبرق والبرد، فيهلككم دفعة واحدة، لعبادتكم غيره، أفلا تستدلون بأن من يقدر على خلق ذلك يقدر على إعادة الأموات أحياء {قُلْ} يا أكمل الرسل لقومك على طريق التعجيز ثالثا {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء} في السموات والأرض من نام وغيره {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ} يؤمن كل أحد من خوفه ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه ولا يخيف من آمنه، وهو يغيث من استجار به، ويكشف ضره إن شاء {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 88 أحدا يقدر على مثل هذا، فاذكروه لنا أيها الناس، وانهم حتما {سَيَقُولُونَ} ان هذه الخصوصية {لِلَّهِ} وحده فقط {قُلْ} لهم إذا كنتم تعترفون بذلك كله {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 89 وتخدعون وكيف تنصرفون عن الحق إلى الباطل، وما ذلك إلا لأنكم لا تنتفعون بحواسكم إذ لا تحسنون استعمالها والوقوف على ما تدل عليه، ولا تعلمون إلا مظاهر الأشياء.
وقرئ في الآيتين الأخيرتين {اللّه} بلا حرف الجر وهي قراءة على الظاهر، وباللام على المعني، وكلاهما جائز، فلو قيل لك من صاحب هذه الدار فقلت زيد كان جوابا عن لفظ السؤال، ولو قلت لزيد كان على المعنى، لأن معنى من صاحب هذه الدار لمن هي فيصح المعنى، وقد أنشد الزجاج على الأول:
وقال السائلون لمن حفرتم ** فقال المخبرون لهم وزير

وأنشد صاحب المطالع للثاني:
إذا قيل من رب المزالف والقرى ** ورب الجياد الجرد قلت لخالد

وتشير هذه الآيات الثلاث لتقريعهم وتوبيخهم على عبادة غير اللّه المالك لهذه الأشياء المتصرف بها القادر على كل شيء، وتنبيه على أن الفاعل لتلك قادر على إحيائهم بعد موتهم، وأن إنكارهم وجحودهم ما هو إلا محض عناد وعتو بعد اعترافهم بأن اللّه تعالى الخالق المالك للسموات والأرض ومن فيهما وعليهما وتحتها وفوقهما.
قال تعالى: {بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ} هذا إضراب عن قولهم أن الإخبار بإيجاد البعث من أساطير الأولين، أي إننا يا سيد الرسل لم نأتهم بما فاهوا به، وإنما أتيناهم بالصدق وأخبرناهم بما أخبرناهم بالحق {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} 90 في جحودهم ونسبة الولد والصاحبة والشريك، ولهذا أكد فريتهم هذه بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} فكيف ينسبون إليه الملائكة بأنها بناته كما نسب اليهود والنصارى بنوة عزيز والمسيح إليه من تلقاء أنفسهم أيضا، تعالى عن ذلك، ثم أكد الجهة الأخرى بقوله: {وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ} آخر قط فهو المتفرد بتدبير ملكه المبرأ عن المعين، فكيف ينسبون له الشريك؟ وقد قال إنما هو إله واحد، وقال وأمتكم واحدة، ونهى عن التفرق في الدين، ونهى عن الاختلاف فيما جاءت به الرسل، لأن طريقتهم واحدة، وأصل الدين الذي أمروا باتباعه واحد، والمرسل والشارع الحقيقي هو الواحد واحد، راجع الآية 52 المارة والآية 59 من سورة الأنعام المارة وما ترشدك إليه والآية 59 من سورة الأنبياء المارة أيضا، ثم علل ذلك بقوله جل قوله: {إِذًا} لو كان كما يزعمون من وجود الشريك {لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ} ليختص به منفردا عن الآخر ولا يشركه فيه، ولا يرضى الانقياد لغيره، ولامتاز ملك كل منهما عن الآخر ومنعه من الاستيلاء عليه {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} في الخلق والقدرة والعظمة وغالبه عليها ليكون أكبر منه ولبسط سلطانه عليه كما يفعل ملوك الدنيا، وإذ لم ير شيئا من ذلك ولا أثر للتمايز والتغالب والتعاظم في الملك مما يقع لملوك الدنيا.
فاعلموا أيها الناس أنما هو إله واحد بيده ملكوت كل شيء في السماء والأرض، راجع الآية 22 من الأنبياء المارة في برهان التمانع، ثم نزّه ذاته الطاهرة عن تقولاتهم هذه كلها بقوله: {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 91 الحضرة الإلهية المقدسة مما هو من شأن البشر.
وهذه الآية في معرض الجواب لمن حاجّ حضرة الرسول من المشركين، فلا محل للقول بأن {إذا} لا تدخل إلا على كلام مشتمل على الجواب والجزاء، لأن قوله لذهب وقع جزاء وجوابا ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل، لأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله {وما كان معه من إله} تأمل.
ثم وصف اللّه نفسه المقدسة عن تفوهاتهم بقوله: {عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 92 وتبرأ عما لا يليق به، ويا خاتم الرسل {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي} في حياتي الدنيا {ما يُوعَدُونَ} 93 به من العذاب الذي ستنزله عليهم يا {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 94 منهم فتعذبني بعذابهم، أي إذا أردت أن توقع بهم عذابك فنجني من بينهم كما نجيت أنبياءك ومن آمن بهم من بين أقوامهم الكافرين، وهذا إظهار للعبودية، لأن النبي له أن يسأل ربه ما علم أنه يفعله ويستغيث به مما علم أنه لا يفعله تواضعا، قال تعالى مجيبا لنبيّه {وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ} 95 وهو جواب أيضا على إنكارهم موعد نزول العذاب وضحكهم منه ولكن يا سيد الرسل {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالخصلة التي هي أرفق وأوفق، وذلك بأن تصبر على أذاهم وتعرض عن معاداتهم وتصفح عن طلب تعذيبهم الآن، ومفعول ادفع {السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ} 96 به ألوهيتنا وينعتون نبوّتنا، وهذه الآية ليست منسوخة بآية السيف الآتية بعد كما قاله بعض المفسرين، لأن المداراة مطلوبة في مثل هذا، ومحثوث عليها في كل الأحوال، ما لم تثلم بالدين، لا سيما إذا كان هناك أمل مرتقب بقبولهم النصح ورجوعهم عن الغي، أي اجعل يا محمد جواب إساءتهم لك إحسانا، ولا يهمنّك شأنهم.
ولما أن أشار اللّه تعالى لنبيه بأن يقابل إساءتهم بالإحسان وهو بمثابة النهي عن مقابلة السيئة بالسيئة، أتبعه بما يقوي لبّه، وزيادة على ذلك الالتجاء إليه بقوله عز قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)} نزعاتهم ووساوسهم، لأنهم يحثون الناس على السيئات والهمز الدفع والتحريك كالهز والأز، ومنه مهماز الرائض، أي أن الشيطان يهمز الناس على فعل الشر كما تهمز الراضة الدواب حثالها على الشيء.
وقيل أيضا يا سيد الرسل {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 98 أمرا من أموري كي لا تساق نفسي إلا إلى الخير كما خلقت له، وهذا إخبار من اللّه بأن يكف عن قومه ويصبر على أذاهم ويديم لهم النصح حتى حين الوقت المقدر لإيمان من يؤمن وإصرار من يصر.
ثم أخبره بما يكون مصيرهم فقال: {حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} 99 إلى الدنيا وقد جمع الضمير لما هو شائع لدى العرب أن يخاطبوا الواحد بلفظ الجمع تعظيما وتبجيلا كيف والمخاطب هو رب المخاطبين. وعلى هذا قوله:
ألا فارحموني يا آل محمد فإن لم ** أكن أهلا فأنت له أهل

وقول الآخر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم ** وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

النقاخ الماء البارد، والبرد النوم.
ثم علل طلبه بقوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ} الفرصة بالدنيا وضيعتها فأعدني يا رب إلى المحل الذي تركته في الدنيا لأتدارك ما فات مني، وهيهات، قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى ان رجع ليعمل بطاعة اللّه، فرحم اللّه امرأ عمل في دنياه ما يتمناه الكافر إذا نزل به العذاب.
قال تعالى: {كَلَّا} لا سبيل لك للرجوع. وكلا أداة زجر وردع، راجع بحثها مفصلا في الآية 14 من سورة الشعراء، وهذه الكلمة التي يطلب فيها الرجعة {إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} لا محالة، وكل كافر سيقولها في ذلك الوقت بسبب استيلاء الحسرة والندم على أمثالهم، ولكنهم لا يجابون، لأن الوقت ليس بوقت إجابة، ولو أجابهم لما بقي للنار نصيب من أحد، لأن كل أهلها يقولها، وكيف يرجعون إلى الدنيا {وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ} حاجز حائل بينهم وبين الرجوع، باق مستقر {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 100 من قبورهم، وليس معنى الغاية أنهم يرجعون إلى الدنيا بعد البعث، وإنما هو إقناط كلي للعلم أنه لا رجعة بعد الموت إلى الدنيا، وإنما مصيرهم بعده إلى الآخرة {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ} تقدم ما فيه في الآية 67 من سورة الزمر المارة.

.مطلب في التقاطع وعدم الالتفات إلى الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها:

{فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} بل فيه يفر المرء من أخيه وابنه وأبيه وصاحبته، ولا ينفع فية أحد أحدا إلا من يؤهله اللّه للشفاعة فإنه يشفع لمن يشاء {وَلا يَتَساءَلُونَ} 101 سؤال تواصل وتوادد وتحابب وتخالل كما كانوا في الدنيا لأن كلّا مشغول بنفسه.
وقد يقع سؤال عتاب وخصام ومجادلة بين العابدين والمعبودين والشيطان وأتباعه واخوان السوء، راجع الآية 67 من سورة الزمر والآية 21 من سورة إبراهيم والآية 47 من سورة الزخرف في هذا البحث.
وهذه النفخة هي النفخة الثانية التي يقع بعدها البعث والنشور والحساب بدليل سياق الآية نفسها والآيات بعدها.
قال ابن مسعود إنها النفخة الثانية، قال يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد هذا فلان بن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه، فيفرح المؤمن أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه، ثم قرأ {فلا أنساب بينهم} الآية.
وقال ابن عباس في رواية أخرى إنها النفخة الثانية {فلا أنساب بينهم} الآية، أي لا يتفاخرون يومئذ بالأنساب كما كانوا يتفاخرون في الدنيا بها ولا يتساءلون سؤال تواصل أو سؤال تعرف، كقول الإنسان للآخر من أنت؟ ومن أي قبيلة أو قرية؟ راجع الآية 66 من سورة الزخرف والآية 31 من سورة إبراهيم المارتين.
وحكم هذه الآية عام، وقيل خاص بالكفرة بدليل سياق الآية.